سيعود الربيع يوماً

[b]كنت أتناسى همّ القدوم يوميا من( بلعما) إلى (أم الجمال) بمتعة العمل في موقع عريق من الأرض التي أقدسها.. وأهواها ، فمصيبة الاستيقاظ مبكرا والتنقل بين الحافلة والأخرى كانت تتلاشى عندما تقتحم قدمي اليمنى بوابة سياج الخربة الأثرية في أم الجمال .[/b]

[b]أما لهب الظهيرة وهاجرة البازلت الأسود فما أسرع ما تكون بردا وسلاما على روح من يهوى المكان ,وبحسبي أن أدخل المحكمة وألقي بنفسي المرهقة على أحد ألواح الخشب العملاقة وأغمض عيناي وأفرد شراع الخيال لتهب نسمات كأنها من بصرى تبعد كل زوابع النكد والمشقة وتحضر في ثناياها أجمل أطياف الرقة والعذوبة.[/b]

[b]في ذلك اليوم الذي لا أنساه ، وأثناء عملنا بترميم البيت الأموي عند مدخل المدينة تقاطرت مجموعة من السياح, يحمل كل منهم كالعادة آلة تصويره الحديثة ,لا يدعون ما يعتب عليهم فهم مولعون بكل قديم, أما الأدلاء فكقادة الجيوش يتحدثون كل اللغات والواحد منهم يتحدث بثلاث لغات معا فلغة النطق والأوراق والوثائق والخرائط بيد ويد أخرى تلوح ذات اليمين وذات الشمال وعيون السياح تروح مع يده وتغتدي ..........[/b]

[b]عند الظهيرة وأثناء استلقائي في المحكمة دخل الدليل السياحي إلى القسم الذي كنت فيه ....[/b]

[b]عرفت أنه الدليل السياحي من خلال هيأته والبطاقة التي علقها على صدره ،كان رجلا في الستين من عمره وما إن دخل الموقع حتى ازدحم المكان خلفه بالسياح ,ألقى عليّ التحية فاندفعت إليه وصافحته ,سألني عن مهنتي فأخبرته أنني أعمل في مشروع ترميم البيت الأموي عند مدخل المدينة .[/b]

[b]قال لي بصوت خافت : [/b]

[b]ـ"هذه المرة الأولى التي آتي بها إلى هنا ، أرجوا مساعدتي !"[/b]

[b]عندها أصابني شعور بالأسى تجاه من يسيرون خلف إنسان لا يعلم شيئا عن (أم الجمال) .[/b]

[b]قلت له:[/b]

[b]ـ" هذه هي المحكمة، قام بترميم جزء منها خبراء من( أمريكا )"[/b]

[b]فالتفت إليهم وترجم ما قلته إلى الإيطالية،فعرفت أن هؤلاء من (إيطاليا)ثم عاد بوجهه إلي وقال:[/b]

[b]ـ" تابع ...........".[/b]

[b]قلت له :ـ" يتوسط هذا البناء مدينة أم الجمال الرائعة التي أمر ببنائها ملك نبطي عربي يدعى الحارث ".[/b]

[b]التفت الدليل إليهم ثانية وترجم ما قلته ،فسألته إحدى الفتيات عن سبب عدم إتمام العمل هنا ، فترجم السؤال لي فقلت لها بالعربية :[/b]

[b]ـ" إن المدينة ممتدة وواسعة وكثيرة المباني وبحاجة إلى ميزانية عالمية، أما زيارتها والتمعن بها فلا يكفيها يوم وشهر وسنة ،فبرأيي وبالنسبة لي تستحق العمر كله "......[/b]

[b]كان الدليل يترجم الكلام فورا ،إلا أن هؤلاء لم يرق لهم البقاء هنا فهم ينشدون رؤية نظام الماء الذي اشتهرت به (أم الجمال) وكان هذا مرادهم منذ البداية إلا أن الدليل الجاهل كما علمت كان يحاول التملص ,والمصيبة الأكبر أنني لا أعلم إلا القليل عن نظام الماء .[/b]

[b]أمام المحكمة ...وقفت المجموعة وطلب مني الدليل مرافقته ضمن الوقت المحدد لي, كان عمال ورشة الترميم يجلسون هناك على ربوة اصطناعية نتجت عن تنظيف البركة الكبيرة التي تشكل جزءا مهما من نظام الماء ، وهم جالسون يحتسون شاي الحطب وقف بعضهم ملاحظا مرافقتي للمجموعة فلوح أحدهم لي يطلب مني أن أناديه ليجد ذريعة للدخول في مجموعة السياح .[/b]

[b]أخرج أحد السياح(كتالوجا) من جيبه رسم عليه مجموعة من النقوش وسألني عن أحدها... قلت للدليل :ـ[/b]

[b]"أهل مكة أعلم بشعابها، اسمح لي أن أنادي بعض الشباب فهم من أهل البلدة "[/b]

[b]وبأسرع من ارتداد الطرف جاء( راضي) و(عليوي) يركضون وسألتهم عن النقش فأبدوا المساعدة وساروا أمامنا ونحن خلفهم حتى وصلنا إلى إحدى الكنائس فأرشدنا (عليوي) إلى نقش في أعلى الباب الأول من الأبواب الثلاثة من الجهة الغربية فقام السياح بتصوير النقش فيما أبدى(راضي و عليوي) استمتاعهم بمرافقة المجموعة .[/b]

[b]وقف الجميع أمام مشهد الفسيفساء المدمرة والرخام المحطم هنا وهناك . وأبدوا استياءهم تجاه ما رأوه ، فيما قلت للدليل:[/b]

[b]ـ" هنا كانت قوافل الحجيج تحط رحالها للصلاة ، وهنا كان الآلاف منهم يستمتعون بمشاهدة الفسيفساء الجميلة التي دمرتها الأيام وهناك في حاجز قدس الأقداس كانت تنتصب ألواح الرخام الجميل النقي لتعبر عن نقاء قلوب أبناء ذلك الزمان وإيمانهم . [/b]

[b]و كعادته ترجم الدليل كل ما قلته، فيما التفّ الشباب والشابات من المجموعة وهم يتمعنون الطريقة التي كنت أتحدث بها ويبدون اندهاشهم وتفاعلهم .[/b]

[b]إنها المرة الأولى التي آخذ فيها مجدي في الحديث بالرغم من أن هؤلاء لا يفهمون كلامي إلا مترجما .[/b]

[b]خرجنا من الكنيسة لإصرار إحدى الفتيات على رؤية نظام الماء ، الذي أصبح كابوسا بالنسبة للدليل . أما الفتاة فقد تخيلت أن القنوات تجري بالماء وتصب في برك كبيرة وأخرى صغيرة إلى يومنا هذا ونهارنا وساعتنا الملتهبة هذه !!! [/b]

[b]توجهنا معا إلى بركة الماء التي تبدو من بعيد متدفقة بالحياة محاطة بسياج عملاق.... لكنّ المفاجأة وبعد السير تحت أشعة الشمس الحارقة ووصولنا جميعا إلى بركة بنيت من الحجارة السوداء المرممة والمفاجأة أنها جافة وخالية من الماء حتى آخر قطرة ..[/b]

[b]أصاب اليأس كل أفراد المجموعة وأولهم الفتاة التي كانت تجهز آلة تصويرها الرقمية لتلتقط أجمل الصور قرب البركة التي تخيلتها مليئة بالمياه وحولها كل أصناف الطير و الحيوان والنبات والزهور البرية .... يا لخيبة الأمل ..[/b]

[b]جلست الفتاة على حافة البركة وجلس الجميع ، وأخرج كل منهم علبة الماء فيما أغلقت هي آلة تصويرها وعلقتها في عنقها وخلعت قبعة القش ووضعتها جانبا ثم نظرت إلى الدليل نظرة تحقير وندم...... ثم عاودت النظر إلى أسفل البركة الجافة والتفتت لتنظر إليَّ هذه المرة ...[/b]

[b]يا هل ترى ماذا يخطر ببال من يقف في مكاني تلك اللحظات؟ لا أدري .[/b]

[b]بالرغم من أن الفتاة كانت غاضبة إلا أنها وبكل صدق كانت جميلة .... خاصة عندما تلألأت جدائل شعرها الصغيرة مستجيبة لضوء الشمس بالرغم من حرارة الجو؛ ومرة أخرى ماذا أقول لها .... [/b]

[b]ياه....[/b]

[b]عادت بي الذكرى لمقطوعة من نظم زميل لي في الجامعة اسمه( رشيد عباس) كردي العرق من (عين عرب) في (حلب) كان دائما ما يرددها وهي بالكردية : [/b]

[b]روجكي ويبهار وري خوش كش بيبي نوكبري[/b]

[b]ومعنى هذا:" سيعود الربيع يوما ولن تبقى الأمور على ما كانت عليه" فوجهت هذا البيت للمجموعة وبادر الدليل بترجمة كلماتي العربية إلى الإيطالية ويوجهها إلى الفتاة التي ابتسمت هذه المرة.....[/b]

[b]فتابعت قائلا:[/b]

[b]ـ " أزهار الشقائق الحمراء اللون المنحنية....[/b]

[b]سترفع رأسها......[/b]

[b]وتستقبل الندى..[/b]

[b]والنسيم..[/b]

[b]والنحلة... ."[/b]

[b]عندها صفق الجميع وأبدوا إعجابهم وقاموا ليتموا مسيرهم, فافترقت عنهم عائدا إلى عملي ،فيما تناقل العمال هذه المشاهد ونقلتها أنا إلى سجل ذكرياتي . [/b]

تسلم ايدك

شكرا عاشقة الاهلى

تسلم ايدك